كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال اللّه تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)} بعد أن بيّن اللّه تعالى ما يجب أن يكون عليه المؤمنون في قتال عدوهم من أخذ الحذر أثناء الصلاة عاد إلى بعث المؤمنين على نحو آخر من المذهب الكلامي، وسوق الدعوى يحدوها الدليل.
{وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ} كَما تَأْلَمُونَ لا تضعفوا في قتالهم، ولا تتواكلوا، ولا يمنعكم منه ما يظن أن يصيبكم في قتال أعدائكم من ألم القتل والجرح، فإنّ ذلك أمر مشترك من شأنه أن يقع بكم، ويقع بأعدائكم ما دام لم ينثن أعداؤكم عن قتالكم، فما بالكم تخافونه دونهم.
{وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ} بل إنّ أعداءكم إذا جاز لهم أن يخافوا فهم حقيقون بأن يخافوا، فإنّهم لا حجة لهم في الإقدام على أمر هو مظنة هلاكهم، فإنّهم على الباطل، والباطل مهما مدّ اللّه له في الأجل فهو في النهاية مدفوع. بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه، ولم يعدهم اللّه بالنصر كما وعدكم، ولا ثمرة تعود عليهم من قتالهم هذا، فإنهم وإن تمّت لهم الغلبة أمامهم جهنم مفتحة الأبواب، عميقة الغور، أعدت للكافرين المعاندين لكم، وقد وعدكم نصره، وضمن لكم الجنة، وأنتم الفائزون في الحالين، وأنتم بما تعبدون اللّه وتوحدونه لا تشركون به شيئا، تطمعون في نصره ورحمته، وهم بما يعبدون من الأصنام، وما هم عليه من العناد: ليس عندهم مثل هذا الطمع، أليس يكفي هذا وحده باعثا لكم على القتال دونهم؟
{وَكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} لا يكلفكم شيئا إلا ما فيه صلاحكم في دينكم ودنياكم على مقتضى علمه وحكمته.
قال اللّه تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)}.
روي في أسباب نزول الآية أخبار كثيرة، كلها متفقة على أنها نزلت في شأن رجل يقال له طعمة بن أبيرق، على خلاف فيما وقع منه، قال الفخر الرازي: إنّ طعمة سرق درعا، فلما طلبت الدرع منه رمى واحدا من اليهود بسرقتها، ولما اشتدت الخصومة بين قومه وبين قوم اليهودي جاء قوم طعمة إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وطلبوا منه أن يعينهم على مقصودهم، وأن يلحق الخيانة باليهودي، فهمّ الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك فنزلت الآية. وقيل: إنّ واحدا وضع عند طعمة درعا على سبيل الوديعة، ولم يكن هناك شاهد، فلما طلبها منه جحدها، وقيل: إنّ المودع لما طلب الوديعة زعم طعمة أن اليهودي سرق الدرع.
وقد قال العلماء: إنّ ذلك يدل على أن طعمة وقومه كانوا منافقين، وإلا لما طلبوا من الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم أن يلحق السرقة باليهودي على سبيل التخرص والبهتان، انظر إلى قوله تعالى في الآيات التي بعد هذه {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ}.
وقد روي أن طعمة هرب بعد الحادثة إلى مكة وارتد، وسقط عليه حائط كان يثقبه للسرقة فمات.
{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ} أي بما أعلمك اللّه في كتابه، وأنزله إليك بوحيه، ويصح أن يكون المراد بما جعله اللّه رأيا لك، إما من طريق الوحي، أو الاجتهاد، وليس يلزم من تأويل الآية على العلم بطلان القياس، لأنّك قد عرفت أنّ القياس راجع إلى الكتاب والسنة، والعلم به عمل بأمر اللّه، وقد اختلف العلماء في أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم له أن يجتهد، أو ليس له ذلك، والمسألة لها موضع غير هذا في الأصول يجمع أدلة الطرفين.
غير أن الذي يلزم التنبيه إليه أن الذي يقول: إنه يجوز له الاجتهاد يقول: إنه يجوز عليه الخطأ، لكنّه لا يقرّ على الخطأ، ويستشهد بمثل الحادثة التي نحن بصددها، فإنه قد بيّن له الحكم، وبمثل ما حدث في أسارى بدر.
{وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيمًا} الخائنون هو طعمة وقومه ومن يعنيه أمره منهم، واللام للتعليل، أي لا تكن لأجل الخائنين مخاصما لما يستعدونك عليه، وقيل: إنّ اللام بمعنى عن أي لا تكن مخاصما ومدافعا عنهم ضد البراءة {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} مما هممت به في أمر طعمة وبراءته التي لم تتثبّت في شأنها، والأمر بالاستغفار في هذا وما ماثله لا يقدح في عصمة الأنبياء، لأنه لم يكن منه إلا الهم، والهم لا يوصف بأنه ذنب فضلا عن المعصية، بل إنّ ذلك من قبيل إن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وما أمره بالاستغفار إلا لزيادة الثواب، وإرشاده وإرشاد أمته إلى وجوب التثبت في القضاء، وقيل: إن المراد استغفر لأولئك الذين زعموا عندك براءة الخائن.
{إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا} يغفر لمن استغفره، ويرحم من استرحمه.
قال اللّه تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيمًا (127)}.
الاستفتاء: طلب الإفتاء، والإفتاء: إظهار المشكل من الأحكام وتبينه، كأنّ المفتي لما بيّن المشكل قد قوّاه وصيّره فتيا.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت المواريث في سورة النساء شقّ ذلك على الناس وقالوا: أيرث الصغير الذي لا يعمل في المال ولا يقوم فيه، والمرأة التي هي كذلك، فيرثان كما يرث الرجل الذي يعمل في المال؟ فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء، فانتظروا، فلما رأوا أنه لا يأتي حدث، قالوا: لئن تمّ هذا إنه لواجب ما عنه بد. ثم قالوا: سلوا، فسألوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأنزلت هذه الآية. وروي مثل ذلك عن ابن عباس ومجاهد.
وعن عائشة أنها نزلت في توفية الصداق لهن. وكانت اليتيمة تكون عند الرجل، فإذا كانت جميلة، ولها مال، تزوّج بها وأكل مالها، وإذا كانت دميمة منعها من الأزواج حتى تموت فيرثها. فأنزل اللّه هذه الآية.
معلوم أنّ الصحابة لم يطلبوا الإفتاء عن ذوات النساء، وإنما طلبوا الإفتاء عن حال من أحوالهن، وشيء يتعلّق بهن، فلابد من تقدير محذوف في الكلام، فبعض المفسرين قدّر ذلك المحذوف أمرا خاصا، وجعل سبب النزول قرينة على تعيين ذلك المحذوف المسئول عنه، فقال: المراد يستفتونك في ميراثهن، أو في توفية صداقهن، أو في نكاحهن.
واختار بعضهم التعميم في المسئول عنه، لأنّ سبب النزول لا يخصّص، ولأنّ تقدير العام أتمّ فائدة وأشمل، فقال: المراد يستفتونك فيما يجب لهن وعليهن مطلقا، وقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يسأل عن أحكام كثيرة تتعلّق بالنساء.
وكذلك اختلفوا في المراد بما كتب لهنّ في قول اللّه تعالى: {اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ} فقيل: ما فرض لهن من الميراث، وقيل: من الصداق، وقيل: من النكاح، وقيل: ما يعم ذلك كله وغيره.
وقوله تعالى: {وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ} قد ذهب فيه المعربون مذاهب شتى، وأولى وجوه الإعراب أن تكون (ما) اسم موصول مبتدأ، والخبر محذوف، والتقدير: والذي يتلى عليكم في القرآن كذلك، أي يفتيكم فيهن أيضا. وذلك المتلو في الكتاب هو قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى} [النساء: 3] إلخ.
وحاصل المعنى: أنهم كانوا يسألون عن أحوال كثيرة من أحوال النساء، فما كان منها غير مبيّن الحكم قبل نزول هذه الآية ذكر أن اللّه يفتيهم فيه. وما كان منها مبيّن الحكم في الآيات المتقدمة أحالهم فيه إلى تلك الآيات المتقدمة وذكر أنها تفتيهم فيما عنه يسألون.
وقد جعل دلالة الكتاب على الأحكام إفتاء من الكتاب، ألا ترى أنه يقال في المجاز المشهور إن كتاب اللّه بيّن لنا هذا الحكم، وكما جاز هذا جاز أيضا أن يقال: كتاب اللّه أفتى بكذا.
وقوله تعالى: {فِي يَتامَى النِّساءِ} صلة {يُتْلى} أي يتلى عليكم في شأنهن.
والإضافة في يتامى النساء من إضافة الصفة للموصوف عند الكوفيين، والبصريون يمنعون ذلك، ويجعلون الإضافة هنا على معنى (من) أو (اللام) أي في اليتامى من النساء، أو في أولادهن اليتامى.
{وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} أي في أن تنكحوهن، أو عن أن تنكحوهن، فقد ورد في أخبار كثيرة أن أولياء اليتامى كانوا يرغبون فيهنّ إن كن جميلات، ويأكلون ما لهنّ وإلا كانوا يعضلونهن طمعا في ميراثهن.
وحذف الجار هنا لا يعدّ لبسا، بل إجمال، فكل من الحرفين مراد على سبيل البدل.
واحتج بعض الحنفية بقوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} على أنه يجوز لغير الأب والجد تزويج الصغيرة، لأنّ اللّه ذكر الرغبة في نكاحها، فاقتضى جوازه.
والشافعية يقولون: إنّ اللّه ذكر في هذه الآية ما كانت تفعله الجاهلية على طريق الذم، فلا دلالة فيها على ذلك. على أنه لا يلزم من الرغبة في نكاحهن فعله في حال الصغر.
{وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ} عطف على يتامى النساء، وكانوا- كما علمت- لا يورثونهم كما لا يورثون النساء.
{وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ} أي قل اللّه يفتيكم إلخ ويأمركم أن تقوموا لليتامى بالقسط. أو هو معطوف على {يتامى النساء} والتقدير وما يتلى عليكم في يتامى النساء، وفي المستضعفين من الولدان، وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط.
{وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيمًا} أي وما تفعلوه من خير يتعلّق بهؤلاء المذكورين أو بغيرهم فإنّ اللّه يجازيكم عليه ولا يضيع عنده منه شيء.
قال اللّه تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزًا أَوْ إِعْراضًا فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)} هذا من الأحكام التي أخبر اللّه تعالى أنه يفتيهم بها في النساء مما لم يتقدم ذكره.
والخوف هنا مستعمل في حقيقته، إلا أنّه لا يكون إلا بعد ظهور الأمارات تدل عليه. مثل أن يقول الرجل لامرأته: إنك قد كبرت، وإني أريد أن أتزوج شابّة جميلة.
والأصل في البعل أنه السيد، وسمّي الزوج بعلا لكونه كالسيد لزوجته.
والنشوز- وتقدم معناه- يكون وصفا للمرأة لما تقدم ويكون وصفا للرجل كما هنا، والمراد به هنا ترفّع الرجل بنفسه عن المرأة، وتجافيه عنها: بأن يمنعها نفسه ومودته.
والإعراض الانصراف عنها بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه. مثل أن يقلل محادثتها، أو مؤانستها لطعن في سن، أو دمامة، أو شين في خلق أو ملال.
والإعراض أخف من النشوز.
أخرج الترمذي وحسّنه عن ابن عباس قال: خشيت سودة رضي اللّه عنها أن يطلّقها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالت: يا رسول اللّه لا تطلقني، واجعل يومي لعائشة، ففعل، ونزلت هذه الآية.
وأخرج الشافعي عن ابن المسيب أن ابنة محمد بن مسلمة كانت تحت رافع بن خديج، فكره منها أمرا إما كبرا أو غيره، فأراد طلاقها، فقالت: لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك، فاصطلحا على صلح، فجرت السنة بذلك، ونزل القرآن.
وروي عن عائشة أنّها نزلت في المرأة تكون عند الرجل، فتطول صحبتها، فيريد أن يطلّقها، فتقول: أمسكني وتزوج بغيري، وأنت في حل من النفقة والقسم.
يقول اللّه تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزًا أَوْ إِعْراضًا} والمقصود إن خافت امرأة من زوجها تجافيا أو انصرافا عنها فلا إثم عليهما في أن يجريا بينهما صلحا، بأن تترك المرأة له يومها كما فعلت سودة رضي اللّه عنها مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، أو تضع عنه بعض ما يجب لها من نفقة أو كسوة، أو تهب له شيئا من مهرها، أو تعطيه مالا لتستعطفه وتستديم المقام معه.